Close

شريط الذكريات(1-2)!

لم يفارقني شعور التوتر والانقباض طوال ليلة سفري التي لم أنم فيها إلا سويعات قليلة خوفا من أن يفوتني موعد إقلاع الطائرة إلى أن اتخذت مكاني المخصص على متنها ، و كان صوت كابتن الطائرة و هو يرحب بالمسافرين و ينبههم بضرورة ربط أحزمة الأمان و الامتناع عن التدخين بمثابة القرصة التي جعلتني أفيق من حالة الذهول التي انتابتني لتنفرج بعدها أساريري و أشعر بارتياح و اطمئنان عجيبين و من ثم أتمتم بعدها بأدعية السفر تمهيدا لإقلاع الطائرة المتجهة إلى أرض الوطن. فيبدو أنني كنت عاجزا عن تصديق حقيقة أنني أنهيت ماراثون دراستي الطويل في المملكة المتحدة الذي امتد إلى قرابة الأربع سنوات و نصف السنة كان مليئا بالحواجز و المطبات التي استطعت أن أتجاوزها بحمد من الله و توفيقه.

و من ثم أسبلت جفني و أنا مستريح البال لأسترجع شريط ذكرياتي في هذه البلاد بحلوها و مرها، فلم أستطع منع نفسي من رسم ابتسامة عريضة على وجهي عندما استرجعت ذكريات بدايات سفري إلى المملكة المتحدة بعد تخرجي مباشرة من الثانوية العامة و رصيدي من اللغة الإنجليزية لا يتعدى مجموعة بسيطة من الكلمات على رأسها كلمتي (Yes) و (No ) مع بعض الجمل المتفرقة الي (تمشي الحال) و التي كادت أن تودي بي في (ستين داهية) كانت حصيلة اثني عشر سنة دراسة في المدارس الحكومية!

لكن سرعان ما تلاشت تلك الابتسامة بعد أن شعرت بالتقزز و الامتعاض عندما تذكرت أول يوم لي في معهد اللغة عندما حان موعد الغداء و اصطف الجميع طوابير كالعادة و حشرت نفسي بينهم لأنال نصيبي يعد أن وصل الجوع لي مبلغا جعلني على وشك أن ألتهم الشخص الذي يقف أمامي في الطابور!، و بطبيعة الحال و كعادة أي شاب يسافر إلى الخارج كان من ضمن الخطوط الحمراء التي حذرت من تجاوزها و المحذورات التي نبهت بشدة على تجنبها بل مجرد لمسها منتجات الخنزير أعزكم الله و المشروبات الكحولية فوضعت جملة (No Ham … No whiskey) نصب عيني و ظللت أرددها طوال تلك الفترة حتى حفظتها عن ظهر قلب!

و يبدو أن الجوع الشديد قد أفقدني القدرة عن التمييز بين أنواع اللحوم المختلفة فعندما حان دوري سارعت بطلب قطعة لحم خُيل إلي أنها شهية بعد أن سال لها لعابي بسبب إعجابي بشكلها و طريقة تقديمها دون أن أنتبه إلى مسمى الوجبة و حدثت نفسي بأنها فرصة لتجربة وجبة جديدة و التغيير من المجابيس و البرياني!، وطبعا استخدمت في طلبها لغة الإشارات فلم يكن مستواي في اللغة الإنجليزية يؤهلني بأن (آخذ و أعطي) في الحديث ، فنظرت إلي الطباخة بنظرة غريبة و قالت بنبرة لا تخلو من الاندهاش: بورك…. pork؟! و أنا على نياتي ظننتها تبارك لي انضمامي للمعهد و تقول لي (مبروك) فأجبتها بكل ثقة: “Yes…Thank You”!

فاكتفت بهز رأسها و ناولتني قطعة كبيرة مع كمية من (الشيبس) و الخضار المسلوق، و ذهبت مسرعا بوجبتي لأتخذ مكاني مع مجموعة من الأصدقاء على إحدى الطاولات دون أن ألاحظ الغمزات و اللمزات التي بدؤوا بتبادلها فيما بينهم التي تطورت فيما بعد إلى ضحكات مجلجلة دون أن أعيرهم أدنى اهتمام حيث كان همي الأول و الوحيد هو أن أسكت معدتي التي كانت تئن من فرط الجوع، فشمرت عن ساعدي و سميت باسم الله استعدادا لتناول وجبة الغداء التي طال انتظارها و ما أن شرعت بتناول أول لقمة فوجئت بأحد الأصدقاء يوقفوني و ينبهني بأن ما كنت سأتناوله للتو ليس إلا فخذ خنزير مطبوخ!

فألقيت بالشوكة و السكين بعيدا من شدة خوفي و كأن الشيطان قد تمثل أمامي، شعرت بعدها بحالة شديدة من (لوعة الجبد) و أن معدتي انكمشت حتى أصبحت بحجم ثمرة الكمثرى الصغيرة فلم أجد مفرا من ألقي الصحن بما فيه في سلة القمامة بعد أن (انسدت نفسي) لأكمل صيامي حتى موعد تناول العشاء!

و يبدو أن إدارة المعهد تنبهت لهذه النقطة و راعت ظروف الطلاب المستجدين أمثالي فعكفت لاحقا على تعليق صورة كبيرة لـخنزير (مبتسم) في قائمة الطعام بجانب الوجبات التي تحوي على أي منتج من منتجات هذا الحيوان -الذي بمجرد سماع اسمه أصاب بالغثيان- حرصا منها أن لا يقع طالب جديد في مثل هذا (المطب) الذي كاد أن يكلف (معدتي) ثمنا غاليا!

و لا أعتقد أن مدرسة اللغة التي كانت تدرسني تستطيع نسياني بعد المقالب العديدة التي قمت بعملها أثناء إلقائها للدروس فكثيرا ما كدت أن أطرد من الفصل بسبب إصراري على الحديث مع زملائي العرب في الفصل مستخدمين اللغة العربية و إثارتي للفوضى و الشغب بعض الأحيان فمن المواقف الطريفة و المحرجة في نفس الوقت ما حدث ذات يوم عندما قمت بسؤالها عن معنى كلمة من الكلمات المركبة التي استعصى علي فهمها لصعوبتها لكن الغريب أنها (طنشتني) فاضطررت إلى إعادة السؤال مرة أخرى لعلها لم تسمعني لكنها أصرت على التطنيش، (فركبت راسي) و صممت أن ألاقي لسؤالي جوابا حتى لو كلفني أن أطرد خارج الفصل ، فأعدت السؤال للمرة الثالثة (ويهي لوح)، فلم تجد المدرسة مفرا من أن ترد علي قبل أن أقوم بإفساد الدرس و تقول لي بكل برود:” ليس من قواعد الذوق و الأدب أن تسأل سؤالا بدون أن تقول كلمة Please!”

لينفجر بقية الطلاب ضحكا علي و يتلون وجهي ليفوق لون (الكاتشاب) حمرة خجلا و قهرا من كلمات تلك المدرسة الخبيثة التي كانت تنتظر هذه الفرصة على أحر من الجمر لكي تنتقم مني فيها، لكني لا أنكر أني تعلمت درسا لن أنساه أبدا و هو أنه “مع الإنجليز…لا تنسى كلمة please و إلا فإن مصير طلبك التطنيش”!

و بينما كنت مستمرا في استرجاع ذكرياتي إذا بالمضيف يوقظني متسائلا عن نوع الوجبة التي أرغب بتناولها، فبدون تردد أجبته: دجاج…. Please!

و للذكريات تتمة….