Close

شريط الذكريات(2-2)!

لم يستغرق تناولي للوجبة المقدمة لي سوى دقائق قليلة، فالوجبات التي تقدم في الرحلات الجوية خفيفة جدا لدرجة أنها بالكاد تسد جوع طفل في العاشرة من عمره مما يضطرني في كثير من الأحيان أن أدس مجموعة من الشطائر المتنوعة بين أمتعتي كاحتياطي (استراتيجي) أقوم بتنوالها عندما تتطلب الظروف خصوصا في الرحلات الطويلة!

حلقت هذه المرة في ذكرياتي بعيدا إلى الفترة التي سبقت سفري للملكة المتحدة، تلك الفترة العصيبة التي كدت أن أفقد فيها الأمل بالحصول على بعثة دراسية أحقق فيها طموحي بالسفر و الدراسة في الخارج و اكتشاف عوالم جديدة و مثيرة ، فمع حصولي على نسبة مرتفعة في الثانوية العامة ظننت أن الطريق مفروش أمامي بالورود لنيل بعثة دراسية و تحقيق حلمي الذي كان ينمو معي منذ الطفولة إلا أن جميع الأبواب أوصدت أمامي بشكل غريب و تم رفض طلبي في جميع الجهات و المؤسسات التعليمية التي تقدمت إليها هذا بالرغم من حرصي على تحقيق جميع الشروط المطلوبة ، و اذكر في تلك الفترة أن إحدى تلك الجهات اشترطت شروطا غريبة بعض الشيء و أحد هذه الشروط وهو أن يكون المتقدم (عازبا) و حددت له سن معينة حتى أنني اعتقدت لوهلة أنني بصدد التقديم على طلب منحة من صندوق الزواج لا بعثة دراسية!

لحسن الحظ تم قبول طلبي من قبل إحدى المؤسسات التي قامت بابتعاثي إلى المملكة المتحدة لدراسة إحدى تخصصات الهندسة الميكانيكية قبل أن أسلم بأن مصيري سيكون كمصير غيري من أصحاب الطموحات العالية و المجاميع المرتفعة (الملطوعين) في الجامعات المحلية لا شيء إنما لعجزهم عن ابتلاع أقراص فيتامين واو (و يا ما في الجامعة مظاليم)!

لا أدري لماذا تذكرت في تلك اللحظة الأم المسكينة التي اتصلت بي قبل فترة تسأل عن ابنها الذي هجرها و هجر أهله و لم يتصل بهم منذ فترة طويلة و قاطعهم مقاطعة شبه تامة بعد أن (لعبت بعقله) إحدى الفتيات الشقراوات التي تعرف عليها في إحدى الملاهي الليلة و استطاعت أن تنسيه فضل أهله الذين ربوه و كبروه بذلوا الغالي و النفيس في سبيل أن يكمل دراسته في الخارج على أمل أن يرجع إليهم مرفوع الرأس حاملا بيده شهادة تخرجه، و رجتني و هي تغالب دموعها أن أقوم بنصحه لعل الله يهديه على يدي، و ربطت بين هذا الموقف و بين كلام صديق والدي الذي استقبل نبأ سفري للدراسة في الخارج بفتور عجيب و استنكر بشدة سماح والدي لي بالسفر إلى الخارج و عذره في ذلك قلة خبرتي و ضعف مناعة من هم في مثل سني تجاه الفتن و المغريات المحدقة بالشباب في الغرب، و بالرغم من أني كنت متيقن أن ذلك الصديق لم يقل هذا الكلام إلا حبا في و حرصا منه علي و على مصلحتي و زادني يقينا الموقف السابق إلا أنني خشيت أن يغير والدي رأيه و يشهر (الفيتو) في وجهي و يمنعني من السفر و تحقيق هذا الحلم الكبير بالنسبة لي و لكن موقف والدي لم يتأثر و لله الحمد فشد على يدي و بارك لي التخصص الذي اخترته و زاد على ذلك دعوات خالصة لله بأن يوفقني و يحميني من كل شر و مكروه.

حاولت إحصاء عدد زياراتي للعاصمة لندن طوال فترة الأربع سنوات و نصف التي قضيتها في ربوع المملكة المتحدة فاكتشفت أنها لمم تتعدى الثمانية أو التسعة زيارات فقط ليس لبعد المسافة بينها و بين مدينة (نيو كاسل) التي كنت أدرس فيها بل كان الغلاء الفاحش الذي تشتهر به العاصمة البريطانية من ضمن الأسباب التي تجعلني أفكر مائة مرة قبل أن أقطع تذكرة قطار يقلني إلى محطة (كينج كروس) في لندن، فقضاء عطلة الويكند هناك قد يكلفني على الأقل (ربع) راتبي مع الرأفة!

و لا بد أنكم سمعتم بشارع (الإجوارد رود) أو شارع الخليجين كما يحلو للبعض أن يطلق عليه لكثرة أعداد الخليجين الذين يتجولون هناك مما يجعل مرتاد ذلك الشارع يشك في كونه قد سافر إلى عاصمة الضباب، و هذا ما شعرت به فعلا في أول زيارة لي إلى هناك خصوصا بعد رأيت ما حولي يدل على أنني في حي شعبي يقع وسط إحدى العواصم العربية ، فالمطاعم و المقاهي العربية منتشرة على جانبي الشارع تقدم ما لذ و طاب من أشهى المأكولات العربية و الخليجية، و هناك المحلات التي تبيع الصحف و المجلات العربية المختلفة، أما عن الأسعار فحدث و لا حرج ففي السابق كنت أتعجب من قيام بعض العائلات الخليجية بشحن (بقالات و مستودعات) كاملة عند مجيئهم إلى لندن لكن عجبي لم يلبث أن زال بعد أن علمت أن سندوتش الشاروما الذي لا يتعدى سعره في أرقى المطاعم الشامية في الإمارات الثلاثة دراهم يباع في لندن بسعر ثلاثة جنيهات أي ما يقارب الخمسة عشر درهما مستغلين بذلك حالة البذخ التي يعيشها كثير من السياح الخليجيين عند سفرهم إلى أوروبا!

و من المناظر التي أصبحت مألوفة بالنسبة لي أن أرى كثير من الخليجين يتجولون في ذلك الشارع و هو يرتدون الأزياء الخليجية التقليدية لكن أكثر ما يفرحني و يدخل البهجة و السرور في قلبي رؤية امرأة محتشمة تمشي بجانب زوجها و هي ترتدي العباءة التقليدية و البرقع دون أن تلقي بالا إلى نظرات الاستغراب و الدهشة التي توجه إليها من قبل الغربيين بعكس ما نراه من كثير من فتيات هذه الأيام اللواتي يتسكعن في الأسواق و المراكز التجارية و شغلهن الشاغل هو لفت انظار من حولهن من الشباب !

لم يقطع علي شريط ذكرياتي إلا صوت الكابتن من جديد و هو يعلن عن قرب موعد هبوط الطائرة في مطار دبي الدولي ليمتلئ صدري بعدها زهوا و فخرا كوني انتهيت من عبور محطة هامة من محطات حياتي و تمنيت لو كان بي قدر من الشجاعة يمكنني من الصراخ في الطائرة بأعلى صوتي: “أخيرا…… تخرجت”!