Close

طبخات طالب مغترب(1-2)!

لم أحس بمقدار النعمة التي كنت أعيش فيها بين أهلي و ناسي إلا عندما سافرت إلى الخارج، فلم أتخيل أني في يوم من الأيام سأقف في المطبخ وحيدا أكفكف دموعي المنهمرة بغزارة من جراء تقطيع البصل و تقشير الثوم أو أن أمسك بإسفنجة أغسل بها أكوام الصحون و المواعين و أن أقوم بغيرها من الأعمال المنزلية الرتيبة من كنس و تنظيف و كوي للملابس و أنا الذي تعودت منذ صغري أن أجد ما حولي مرتبا في مكانه دون أن أبذل أي أدنى مجهود!

و لم أعاني مثلما عانيت في فترة دراستي للغة الإنجليزية عندما أن ابتليت بالسكن مع إحدى العائلات الإنجليزية لمساعدتي على تعلم اللغة قبل التحاقي بالجامعة، فلقد توجب علي في تلك الفترة أن أتحمل تناول وجباتهم الإنجليزية التقليدية التي لم أستسغها بتاتا، فمن المعروف أن الأطباق الإنجليزية هي الأردأ بين غيرها من الأطباق الأوروبية بلا منازع بل إنها تعتبر مادة دسمة للنكت و الطرائف ومضربا للأمثال بين الأوربيين ، و حقيقة لم أعرف سر هذه التعليقات إلا عندما عايشت بنفسي المجتمع الإنجليزي المتمثل في تلك الأسرة و ذقت تلك الوجبات من يد ربة تلك العائلة و التي استحقت بجدارة لقب أسوأ طاهية (حسب تصنيفي طبعا) ، فبعد أن كنت متعودا قبل سفري على تناول الوجبات الخليجية الدسمة و التي (على الريحة) يسيل لها اللعاب إذ أفاجأ بأن أغلب وجباتهم إن لم تكن جميعها مكونة من الخضار المسلوقة بشكل أساسي إضافة إلى بيضة واحدة (مجانا) مسلوقة هي الأخرى و أكون محظوظا إن كانت مقلية و كأنني ممن يعاني من أمراض الضغط أو السكر! فأضطر في كثير من الأحيان أن آكلها على مضض إسكاتا لعصافير بطني الجائعة و أنا أتجرع بين الفينة و الأخرى (جالونات) من المياه لمساعدتي على الهضم ، و في أحيان أخرى يتكرمون علي بقطعة همبرجر عادة ما تكون مسخنة بالميكرويف مع كمية ضئيلة من البطاطس (المقلية) تذكرني بوجبة (الهابي ميل) المخصصة للأطفال في مطاعم الوجبات السريعة لكن الفارق الوحيد أنها بدون هدية مجانية!

و إذا ما كان الطبق الرئيسي لوجبة العشاء رزا أو (عيش) كما نطلق عليه باللهجة المحلية حتى لو كان خاليا فأسارع بتهنئة أفراد العائلة فردا فردا اعتقادا مني بأنهم يحتفلون بعيد لهم أو مناسبة سعيدة جعلتهم يغيرون من الروتين اليومي في نوعية الوجبات! أذكر أن ربة العائلة أرادت ذات مرة أن تفاجئني و ترسم الابتسامة على وجهي بعد أن لاحظت شحوبي الشديد في الآونة الأخيرة فقامت بطبخ (مجبوس لحم) بعد أن تكرم أحد الطلاب الخليجيين الذي ابتلي بالسكن معهم قبلي بتعليمها الطريقة و أرادت أن تطبقها عمليا، فاستغربت في البداية من الكرم الحاتمي الذي لم أعهده منها سابقا و كذلك الشكل الغريب لما طلقت عليه اسم (الكبسة) المناقض للصورة التي أعرفها عن المجبوس الخليجي الذي طالما استمتعت بأكله (أيام العز) فمن يشاهده للوهلة الأولى يظن أنه إما ثريدا أو خبيصا أو أكلة مجهولة الهوية و المصدر!

و يبدو أنها لاحظت استغرابي بعد أن شاهدت علامات الاستفهام و التعجب ترفرف فوق رأسي فبادرت بالقول بأنه (كبسة سبيشال) و زعمت بأنها قامت بطهيه خصيصا لي بالرغم من وجود طالين آخرين غيري يسكنان معي في العائلة؛ أحدهما ياباني و الآخر…..(فيتنامي) فلم أجد مفرا من تناوله و لسان حالي يقول:مجبوس في اليد خير من عشرة في (الطنجرة)!

الحمد لله أن فترة تعلم اللغة لم تتعدى الخمسة أشهر عدت بعدها في إجازة قصيرة إلى أرض الدولة و أنا (بلبل إنجليزي) لكن بعد أن فقدت عدة كيلوجرامات من وزني استرجعتها سريعا قبل مضي الأسبوع الأول من الإجازة قضيت أغلبها في التنقل بين مطاعم المدينة لأعوض النقص الحاد في كمية الدهون في جسمي، و عقدت العزم أن أستغل البقية الباقية من تلك الإجازة في دخول معترك الطبيخ و المطبخ مستغلا تجارب أيام الطفولة البريئة في تحضير بعض الأكلات (على الطاير) و رافعا شعار :”لا للمسلوق” !

فإذا كان الحكماء قد عدوا سبع فوائد للسفر و الاغتراب فأعتقد أن تعلم الطبخ لوحده يستحق أن يكون الفائدة الثامنة، حيث استطعت في تلك الإجازة القصيرة تعلم كيفية طبخ بعض الأكلات الخفيفة و اكتفيت بكتابة وصفات الأطباق الدسمة في دفتر خاص مستقل خبأته (لليوم الأسود) إلى أن أكتسب مزيدا من الاحتكاك و الخبرة، كما أن أحد الأقارب قام مشكورا بإهدائي مجلد ضخم و قيم يحتوي على وصفات جميع الأطباق و الحلويات العربية و الخليجية و التي لو عكفت على تطبيقها لانتهى بي المطاف بالعمل كـ (شيف) في إحدى فنادق الخمسة نجوم !

طبعا لم أنسى أن أبتاع كمية من البهارات المتنوعة قمت بشحنها مع كمية كبيرة من المعلبات و أدوات المطبخ التي تشمل (القدور و المواعين) بجميع الأحجام و المقاسات حتى أن بعض الشباب قاموا بنشر إشاعة مغرضة بأنني بصدد افتتاح مطعم خليجي في بلدتنا!

تابعوا معي المقال القادم الذي سأحدثكم فيه عن بداياتي في عالم الطبخ و المشاكل التي واجهتني…