Close

رمضانيات بحار(1-2)

مضى علي ما يقارب الخمس سنوات لم أهنأ فيها بقضاء شهر رمضان كاملا على أرض الدولة و ذلك لارتباطي سابقا بالدراسة في الخارج، فبسبب التباين الواضح في عدد أيام العام الهجري و السنة الميلادية كان ذلك يؤدي إلى تضارب مواعيد إجازة “الكريسماس” مع بداية الشهر الكريم، مما يجعلني في كثير من الأحيان أضطر إلى قضاء الأيام الأولى من الشهر الكريم في المملكة المتحدة لأختم الأيام الأخيرة منه بالإضافة إلى قضاء إجازة العيد على أرض الدولة، لكن لم أتخيل أبدا أنني سأضطر في يوم من الأيام أن أقضي ليالي هذا الشهر المبارك وحيدا على ظهر سفينة تغرب فيها شمس كليوم في مكان جديد!

فبسبب طبيعة عملي كمهندس بحري على ظهر ناقلات الغاز، توجب علي هذه السنة أن أقضي أيام و ليالي هذا الشهر الكريم وسط البحر متنقلا ما بين جزيرة داس في الإمارات مرورا بسواحل كل من الهند و سيريلانكا و سنغافورة و جزر الملايو و من ثم جزر الفلبين و تايوان حتى نصل إلى أرض اليابان في أقصى شرق القارة الآسيوية في رحلة تستغرق في مجملها ما بين 14 إلى 16 يوما، و من ثم نعود أدراجنا بعد تفريغ شحنة الغاز التي نحملها في رحلة تستغرق نفس المسافة و المدة، و بالرغم من أن تجربة السفر على ظهر السفن ليست بتجربة جديدة علي فلقد سبق لي أن قضيت ما مجموعه تسعة أشهر كفتة تدريب عملي قبل التخرج متنقلا على ظهر ناقلات عديدة، جبت خلالها أنحاء مختلفة من العالم و أقطار لم أكن أحلم أن أصل إليها في يوم من الأيام، إلا أن قضاء شهر رمضان بأكمله يعد بماثبة تجربة جديدة و فريدة من نوعها بالنسبة لي تضاف إلى رصيد تجاربي و خبراتي في هذه الحياة، و لحسن الحظ كنت قد اتخذت احتياطاتي مبكرا لمقدم هذا الشهر الكريم لعلمي مسبقا بمدى رداءة ما يقدم من وجبات على ظهر السفينة و التي هي في الأساس وجبات غربية يدخل في تحضير كثير منها منتجات الخنزيرأعزكم الله التي لا غنى عنها في حياة الأوروبيين، أما بقية الوجبات فقليل منها ما هو قابل للهضم كما أن نظرة واحدة إلى مسمياتها الغربية تجعلك تفكر ألف مرة قبل أن تغامر بتجربة إحداها!

لذلك لم أتردد أن أقوم بجلب كل ما خف وزنه و زاد دسمه معي إلى السفينة كاحتياطي استراتيجي يشمل أنواع مختلفة من التمور المحلية و الحلويات الشرقية طويلة الأجل و الشوكلاته حتى أن صديقي الذي رافقني على ظهر السفينة قال لي مازحا عندما رأى حجم أمتعتي مقارنة بأمتعته المتواضعة: “شو إنت ناوي تفتح بقالة في السفينة؟!”

إلا أن أكثر ما يحز في النفس هو افتقاد الجور الرمضاني الذي يهم البلاد طوال أيام الشهر الكريم، فليس هناك أصوات تصدح بالأذان لا مجال لتأدية صلوات الجماعة و التروايح في المسجد و ما يعقبها عادة من جلسات عائلية و زيارات للأهل و الأقارب على موائد السحور، فنظرا لأن أغلب جميع أفراد طاقم السفينة من الأجانب غير المسلمين في من الطبيعي أن يمر شهر رمضان مرور الكرام بلا طعم و لا حتى رائحة، فلا فرق عندهم بين رمضان و لا شعبان، و معلوماتهم عن هذا الشهر الكريم لا تتعدى أنه شهر يمتنع خلاله المسلمون عن الطعام و الشراب من شروق الشمس حتى غروبها، دون أن يخفوا مدى استغرابهم من قدرتنا على تحمل الجوع و العطش طوال للنهر، جاهلين أن للصيام معاني تربوية كثيرة أكثر من مجرد الامتناع عن الأكل و الشراب و إن كان الكثير هذه المعاني و المفاهيم قد اندثر و اضمحل أما الصامد فقد انقلب رأسا على عقب!

يبدأ دوامنا اليومي المعتاد في تمام الساعة الثامنة صباحة و يستمر حتى الخامسة مساء يتخلله بعض الاستراحات البسيطة لالتقاط الأنفاس و الراحة من عناء العمل في جور حار لا تقل درجة الحرارة فيه عن 40 درجة مئوية فضلا عن الضجيج الذي يكاد يصم الآذان الصادر عن الأجهزة و المعدات المختلفة المنتشرة في أرجاء غرفة المحركات الضخمة ذات الأربعة طوابق، و هذا يستلزم ارتداء واقيات الأذن الشبيهة بتلك التي يرتديها العاملون على مدرجات الطائرات حماية لأسمعانا من هذا الضجيج، أما زي العمل فلا يتعدى كونه زي من قطعة واحدة عادة ما يتسخ بكوكتيل من الزيوت و الشحوم مع انتهاء اليوم، و طبعا لا يوجد هنا مجال للتقاعس أو التكاسل أثناء العمل سواء في رمضان أو غيره، بعكس ما نراه من بعض موظفينا (المجدين) في بعض الوزارات و الدوائر الحكومية (المكيفة) الذين يجدون في هذا الشهر عذرا جاهزا و (شماعة) لتعليق معاملات الناس المساكين و مصالحهم، و إن تجرأ أحدهم و طالب بتخليص معاملته فلن يسمع سوى العبارة المتداولة و التي أسيء استخدامها كثيرا: “اللهم إني صائم”!

و مع عدم توفر أجهزة استقبال فضائية فمن النادر جدا أن تلتقط أجهزة التلفاز إشارات البث التلفزيوني نظرا لبعد مسار السفينة عن أرض اليابسة، و يبقى الهاتف المحرك جثة هامدة إلا أن تسري الروح في عروقه من جديد ما أن نقترب من سواحل دولة تتوفر في خدمة “الجي إسم إم” و في ما عدى ذلك يقتصر إجراء المكالمات و الإتصالات عبر هاتف السفينة الذي يعمل بواسطة الاقمار الصناعية و هي بالمناسبة مكلفة جدا فتسعيرة الدقيقة واحدة قد تصل إلى أكثر من عشرة أضعاف تسعيرة المكالمة التي تجرى بواسطة الهاتف المتحرك!

و للرمضانيات.. تتمة!