ذات يوم بينما كان راجو ساهرا مع أصدقائه أمام التلفزيون الصغير الذي لا تزيد مساحته عن عشرة يوصات و الكل مندمج في مشاهدة إحدى الأفلام الهندية التي تعرض على شاشة إحدى الفضائيات (العربية) كل يوم أربعاء و الصمت قد عم المكان و كان على رؤوسهم الطير، إذ بالفيلم يقطع فجأة قبيل لقطة رومانسية مثيرة فتح الجميع عيونهم عن آخرها ترقبا لمشاهدتها لتنطلق حينئذ الآهات و الصيحات (الهندية) المستنكرة لكن ما لبث أن عاد الهدوء مرة أخرى فور مشاهدتهم للإعلان التجاري (الساخن جدا) الذي شبعوا من تكرار مشاهدته كل يوم و تظهر فيه مذيعة حسناء تلبس ثوبا ضيقا بلون الكستناء و راسمة على وجهها ابتسامة صفراء، تمسك بيد سماعة الهاتف بكل دلع و دلال و باليد الأخرى تمسك حفنة من الدولارات و تلقي بها في الهواء لتتطاير كالريش، فقفز عاليا و كأنه أصيب بلدغة حية رقطاء ليصرخ مطالبا صديقه (مورلي) بأن يناوله ورقة و قلما بسرعة كي يسجل عليها أرقام الهواتف التي تظهر على الشاشة، فهي المرة الأولى التي يشاهد فيها هذا الإعلان المثير بعد أن انشغل هو و بابو طوال الفترة الماضية بالبحث عن عمل طول النهار و يضطران في كثير من الأحيان إلى المبيت خارج العزبة هربا من (صديق أبو سكروب) و بحثه الدؤوب عنهما، فانتظر إلى أن سمع الرقم المخصص للجالية الأسيوية (هندو كول) الذي لم يجد أدنى صعوبة في حفظه بسبب الطريقة السلسة و (الدلوعة) التي تنطق بها المذيعة الرقم و الأسلوب الذي لا يخلو من مياعة و (لكاعة) و مخارج حروف تمس شغاف قلوب المشاهدين (المرضى) ممن يبحثون عن السلم الوهمي للثراء السريع و تجعلها تخفق شوقا و هياما بالمليون و بالمذيعة في نفس الوقت!
طرب الجميع و صفقوا عند سماعهم للمذيعة و هي تسرد عليهم الأرقام و سبحوا بخيالاتهم إلى أرض المليون وما وراء المليون فأحدهم حلم ببناء قصر في كلكتا و ثاني تخيل نفسه وسط مجموعة من الجواري الفاتنات كلهم صورة طبق الأصل من تلك المذيعة الحسناء التي ظهرت للتو في الإعلان و ثالث كان غاية مناه أن يساهم المليون في حصوله على (الليسن) بعد أن وقف امتحان (الشارع) حجر عثرة في طريق أحلامه، و لم يستفيقوا من تلك الأحلام إلا بعد أن انتهى الإعلان بانتهاء المذيعة من سرد رقم جزيرة تبعد آلاف الأميال (واق واق كول) الذي يبدأ (بالتسعة و التلاتة) و ينتهى بالسفر.. سفر.. سفر! (صفر) فنسي الجميع لقطة الفيلم الساخنة التي كانوا يترقبونها قبل الإعلان و انقض كل واحد منهم على هاتفه النقال ليقوم بالاتصال بالرقم الذي سمعه ممنيا نفسه بالمليون دولار الذي سوف يتحول بقدرة قادر إلا مليارات من الروبيات بعد صرفه!
أما راجو الفقير المسكين فنظرا لحالته المادية الصعبة فكان الوحيد بين أقرانه الذي لا يمتلك هاتفا نقالا، فانتهز فرصة نوم صديقه (بابو) ليستخدم هاتفه النقال دون علمه ويجرب حظه هو الآخر في (معمعة) المليون متتانسيا ما قدر يجره من مصائب و ديون!
قرر راجو في اليوم التالي أن يشتري له هاتف نقال هو الآخر ليواكب الآخرين في ثورة المليون ،فتبرع له أصدقاؤه في العزبة بملغ من المال بالكاد كفاه لشراء بطاقة (الوصال) مع المليون و هاتف نقال رخيص مستعمل (يقاتل) به في معركة شرسة الغلبة فيها (للأغبى) الذي يداوم على الاتصال والتي إن كسبها فلن يتوانى عن استقدام زوجته (ساندار) ليبنيا معا عش الزوجية الذي طالما حلما ببنائه معا في أجواء (خليجية) صحية، أما بابو فقد أرغى و أزبد و حلف يمين طلاق (بالرغم من أنه غير متزوج) بأن لا يكلم راجو بعد اليوم بعد أن علم بأنه قد قام باستخدام هاتفه النقال و استنزف جميع الرصيد المتبقي في إجراء تلك المكالمة المشبوهة التي كانت تكلفتها تعادل تكلفة إجراء مكالمة إلى بلاد الهند و السند و التحدث مع أهله لمدة ساعة كاملة على الأقل! لكن راجو لم يهتم بعد أن أصيب بحمى المليون المزمنة فاستمر في إجراء مكالماته ليل نهار دون توقف خصوصا بعد أن استطاع أن يجد له عمل مؤقت كحلاق (تحت التمرين) وفرت له بعض المال اللازم لشراء سماعة هاتف (هاند فري) تقيه من الإصابة بالصمم من جراء كثرة اتصالاته و الباقي أنفقه في إعادة تعبئة بطاقة الهاتف لكنه لا يتوانى عن استخدام هواتف زملائه في جنح الليل و هم نيام و خصوصا من يمتلكون هواتف (بو فاتورة)!
أما بابو فرأى في سحوبات السيارات طريقة أكثر ضمانا و فعالية في الربح السريع و عد سحوبات المليون ضربا من الجنون فعكف على المشاركة مع شلة من الأصدقاء على اقتسام ثمن التذاكر و الاشتراك في جميع سحوبات السيارات ابتداءا بالمراكز التجارية و الجمعيات التعاونية انتهاء بالمطارات الجوية و بغض النظر عن نوعية السيارة المعروضة سواء كانت سيارة (فور ويل) أو حتى سيارة (بدون تواير) معتمدا على الحظوظ الكبيرة التي يتمتع بها بني جلدته من الآسيوين حتى غدا الربح بينهم (بالوراثة)!
نقطة ساخنة:
أصبت بالغثيان من كثرة مشاهدتي لإعلان (شو بدك تعمل إزا ربحت مليون دولار نأدي) الذي يعرض على كثير من القنوات الفضائية العربية و يأبى إلا أن يعكر مزاجي خلال المرات القليلة التي أجلس فيها لأتابع بعض برامج التلفزيون الهادفة، و لكن شعور هذا الغثنيان يصاحبه ارتفاع ضغط الدم و زيادة في نسبة السكر و التهاب في المفاصل عند مشاهدتي لنفس الإعلان يتكرر كفاصل في برنامج ديني أسبوعي مباشر على قناة الجزيرة دون احترام لا لمشاعر المشاهدين و لا للعالم الجليل الذي يجلس في استوديوهات البرنامج!