هناك لحظات في الحياة لا تخطر على بالك، لكنها تباغتك لتأخذك في رحلة عبر الزمن… رحلة تعيدك إلى أماكن تركت فيها جزءًا من روحك، وأيام كنت تظن أنها طويت ولن تعود أبدًا.
الأسبوع الماضي، وتحديدًا يوم الأربعاء، وجدت نفسي أعود فجأة إلى عالم البحر… ذلك العالم الذي كان بيتي الأول لثماني سنوات، والذي غادرته في 2005 وأنا أظن أن صفحة المحيطات قد أغلِقت من حياتي. لكن يبدو أن للقدر رأيًا آخر.
فخلال زيارة رسمية مع مجموعة من أفراد إدارة الشركة كان من ضمن الجدول زيارة ناقلة غاز كنت على متنها قبل عشرين عامًا
زيارة لم تكن في الحسبان، لكنها كانت كفيلة بإيقاظ ذاكرة كاملة دفعة واحدة.
مازلت أذكر لحظة وقوفي على سطحها…تلك اللحظة التي فتحت بوابة الذكريات… نسيم البحر، رائحة الزيت، ضجيج غرفة المحركات، أمواج كانت تلاعب أفقنا، والأيام والأسابيع الطويلة التي قضيتها ما بين جزيرة داس واليابان.
وفي تلك اللحظة، شعرت أنني كبرت فجأة… عشرون سنة مضت كلمح البصر، لكن عندما استعيد المشاهد، أجدها حاضرة وكأنها حدثت بالأمس.
هذه المرحلة من حياتي كنت قد وثقتها هنا في المدونة، ضمن تبويب خاص ما زال موجودًا بعنوان “من أوراق بحّار سابق”. كانت تلك الأوراق سر تعلق الكثيرين بالمدونة وشعبيتها في وقتها، لأنها حملت قصصًا واقعية ومشاهدات حيّة من قلب البحر… من عالم كان غامضًا بالنسبة للكثيرين، قبل أن تتغير أشياء كثيرة في العالم، وفي طبيعة العمل على البواخر.
مشيت في ممرات السفينة ..صعدت السلالم،،تجولت في بعض الصالات التي كنت أقضي فيها أمسياتي..… أتذكر أسماء الزملاء الذي رافقوني في رحلات متفرقة، ضحكاتنا في لحظات الفرح، وحتى صمتنا في أوقات التعب، صعدت إلى برج المراقبة، حيث كنت أقضي الليالي مع أحد الزملاء نتسامر، ويفتح كل منا قلبه للآخر.
البحر لم يكن مجرد مهنة… كان مدرسة علّمتني الانضباط، والصبر، والعمل بروح الفريق.
واليوم، أدركت أن بعض التجارب لا تموت، بل تبقى حية فينا، تنتظر اللحظة المناسبة لتذكّرنا بمن كنّا، وبما صنع منا ما نحن عليه.
قد نبتعد عن أماكننا الأولى، لكن ذكرياتنا فيها ستظل مرساة تربط حاضرنا بماضينا… وتذكرنا دائمًا أن أجمل الرحلات هي التي تعود بنا إلى أنفسنا.
(14)