Close

رحلة إلى ديزني لاند(2-2)

من الأمور التي مازلت أستغرب منها خلال زياراتي العديدة إلى المدن اليابانية هي إصرار المواطن الياباني على التحدث مع السياح و الزوار بلغته الأم حتى وإن كان موقنا بأن الشخص الذي يتحدث إليه قد لا يفقه من حديثه شيئا، و أجد نفسي حائرا دائما في تفسير هذا التصرف العجيب، هل هو بسبب اعتزازه الشديد بلغته حاله حال أفراد بعض الشعوب الأوربية كالشعب الألماني المعروف عنه كبرياءه الشديد في التعامل مع غيره من الجنسيات الأخرى؟ أم أن ذلك يرجع لعادات أو موروثات لديه تفرض عليه مد يد المساعدة من باب اللباقة و احترام الغير ؟ بغض النظر عن الأسباب فإن ذلك لا ينفي إعجابي الشديد بالمعاملة الودودة و اللطيفة التي يتعاملون بها مع غيرهم علاوة على انبهاري بالتقنيات الصناعية الحديثة و التكنولوجيا المتطورة التي مكنت دولة جردت تماما من قوتها بعد الحرب العالمية الثانية من أن تتبوأ حاليا مكانة الصدارة في العالم و بلا منازع.

حاولنا جاهدين أن نفهم شيئا مما قالته لنا تلك الموظفة لكن جميع محاولتنا باءت بالفشل، فاللغة اليابانية تعد إحدى أكثر اللغات في العالم صعوبة و تعقيدا فتكفيك نظرة واحدة إلى الحروف الأبجدية اليابانية لتصاب بعدها عيناك بالحول، لذلك لم أستغرب عندما رأيت ذات مرة إحدى الفتيات يبدو أنها لم تجد طريقة أكثر ابتكارا للفت انتباه من حولها من الشباب سوى بتطريز أطراف شيلتها بأحرف يابانية (لم أنتبه إلى تطريز العباءة لكن لا أستبعد أنها اختارت لها حروفا صينية!)، و يكفي أن تعلم عزيزي القارئ أن كلمة “ألو” المكونة من ثلاثة أحرف و التي نقولها بكل عفوية عندما نرفع سماعة الهاتف مرادفها في اللغة اليابانية كلمة تتكون من مقطعين هي: “موشي موشي”!، فكيف لنا بعد ذلك أن نفهم سيل الكلمات الذي انطلق من فم تلك الموظفة!

خمنا لاحقا بأنها ربما كانت تحاول أن تخبرنا أنه ليس بمقدورنا أن نحصل على موعد جديد إلا بعد ان ننتهي من ركوب اللعبة السابقة حيث يبدو أن جميع الأجهزة مربوطة مع بعضها البعض ضمن شبكة محكمة لها القدرة على كشف مثل هذه الحيل و الألاعيب الماكرة التي لا تنطلي على الكمبيوتر الياباني!

لم يكن أمامنا خيار آخر سوى أن نعود أدراجنا إلى اللعبة الأولى للحاق بموعدنا حيث أن الوقت لم يكن ليسعفنا لو أننا قررنا الوقوف في ذلك الطابور الطويل، فآثرنا أن نضمن ركوب لعبة على الأقل فدائما..(لعبة في اليد..خير من عشرة على الشجرة)!

كانت الأجواء الاحتفالية تعم المدينة و الأغاني و الأهازيج الكرتونية تصدح عبر مكبرات الصوت المنتشرة في كل مكان، و ساعد على تكامل هذه الصورة البديعة اعتدال الطقس في ذلك اليوم من أواخر أيام فصل الخريف الذي تخلع فيه الأشجار ثوبها القديم تمهيدا لارتداء ثوب جديد في فصل الربيع أكثر رونقا و زهاءا، و مع أن اليابان لا تعد من الوجهات السياحية العالمية المفضلة نظرا لغلاء المستوى المعيشي فيها مقارنة مع غيرها من الدول، إلا أن هناك مجموعات متفرقة من السواح الأجانب من مختلف الجنسيات شبه مطموسين ضمن الأفواج اليابانية الكثيفة التي جاءت ذلك اليوم، أغلبهم كان من الأوروبيين الذين يعشقون بطبيعتهم السفر و السياحة و التنقل بين مختلف أقطار العالم، بالرغم من أننا كنا في فترة من الفترات نحن العرب رواد في هذا المجال و استطعنا خلالها استكشاف بقاع جديدة و الوصول إلى أصقاع بعيدة كان الوصول إليها يعد من ضمن المستحيلات، و لكن ها هي عجلة الأيام تدور و نحن بدورنا ندور معها.

أخذنا في التجول و التنقل بين الألعاب المختلفة آخذين في الحسبان عاملي محدودية الوقت و اتساع المكان و أثناء ذلك لفت انتباهنا افتراش بعض الزوار للأرصفة على جوانب الطريق الرئيسي للمدينة و بينهم بعض الموظفين يقومون بتنظيم عملية السير تفاديا لأي ازدحام قد يحصل، فعلمنا أنهم بانتظار للمسيرة الكبرى لأبطال ديزني لاند و شخصياتها الكرتونية الشهيرة التي كانت على وشك الانطلاق، إلا انا فضلنا أن نستمر في التجول على أن نعود لاحقا فالوقت كان مازال مبكرا و قائمة الألعاب لم تنتهي بعد. من المفارقات الطريفة التي لا أنساها أن إحدى الألعاب استهوتني بعد أن شدني الهدوء المخيم على المكان و حاولت اقناع البقية الذين أبدو بعض التحفظ أن هذا الهدوء ما هو إلا الهدوء الذي يسبق عاصفة الإثارة و المرح! و لكن يا ليتني ما اقترحت فما لبث أن انهال الجميع علي ليس بالضرب المبرح و إنما بوابل من النقد و التوبيخ اللاذع و و هم يلقون باللائمة علي وعلى اختياري (الفاشل)-على حسب تعبير أحدهم- و ذلك بعد أن شعر الجميع بالملل و الرتابة من تلك اللعبة كونها مخصصة بالأصل للأطفال الصغارالذين يبدو أنهم أضربوا بدورهم عن ركوبها، لذلك لا غرابة أنه لم يكن هناك أي زحام عليها بل في الحقيقة.. لم يكن هناك سوى غيرنا!، و كانت تلك المرة الأولى و الأخيرة التي أطرح فيها أية اقتراحات!

كثيرا ما كنت أستوقف الركب بين الفينة و الأخرى لكي ألقي نظرة على المعروضات و السلع المختلفة في أكشاك بيع الهدايا و التذكارات المتوزعة في أنحاء المدينة التي دائما ما تشدني و تجذب انتباهي، و أنا أحاول جاهدا مقاومة نزعة التسوق و الشراء المغروسة بداخلي إلا أن مقاومتي سرعان ما انهارت خصوصا عندما تذكرت أن خلفي قائمة طويلة من الأهل و الأصحاب لن أفلت من براثنهم إذا ما عدت إليهم خالي الوفاض، لكن ذلك لم يعجب بقية زملائي الذين لم يكن لديهم ما يكفي من طولة البال ليصبروا علي و أنا عاكف على تقليب السلع المختلفة محاولا اختيار المميز منها و عقلي مشغول بدوره بالقيام بمختلف العمليات الحسابية من جمع و طرح و ضرب و قسمة لتحويل الأسعار من العملة اليابانية إلى الدولار الأمريكي و من ثم إلى الدرهم الإماراتي! إلا انني انتهزت فرصة جلوسهم في إحدى الاستراحات لتناول وجبة العشاء و تسللت من بينهم لأكمل تجوالي في بقية المحلات وحيدا و دون أية قيود، و كانت النتيجة أن عدت إليهم محملا بأكياس ملئية بمختلف السلع و الهدايا، و وجدوا في ذلك فرصة سانحة لكي يلقوا علي باللائمة مرة أخرى بعد أن فاتنا مشاهدة المسيرة الحاشدة لأبطال ديزني لاند التي كانت ضمن مخططاتنا منذ البداية، و مازلت لحد الآن مستغربا كيف قطعت تلك المسيرة شوارع المدينة طولا و عرضا دون أن نشعر بها و لا بالجلبة و الضجيج التي أحدثتها!

مضى الوقت سريعا و عشنا لحظات سعيدة و كانها سيناريو لحلم جميل لم نفق منه إلا عند سماعنا لدوي الألعاب النارية التي أضاءت سماء مدينة الألعاب في منظر مبهر و رائع، ليكون بذلك مسك الختام ليوم حفل بختلف أنواع المتعة و الإثارة، و اتجهنا مع الحشد الغفير نحو بوابات الخروج و كل منا يجرجر أكياسه خلفه و هي مليئة بالهدايا و التذكارات كان لي منها نصيب الأسد و بدون منافس!