كان الله في عون الآباء و الأمات هذه الأيام فموعد بدء العام الدراسي الجديد لم يتبق عليه إلا أيام قليلة، لتبدأ معها فترة استنزاف الجيوب السنوية و شراء المستلزمات المدرسية من قرطاسية و كراريس و ملابس رياضة و طبخ و غيرها من الطلبات التي لا تنتهي إلى مع نهاية العام الدراسي! طبعا أكبر المستفيدين من حالة الاستنفار هذه هي الجمعيات التعاونية و محال السوبرماركت التي امتلأت مخازنها بشتى أنواع القرطاسية المستوردة من أندونيسيا وتايلاند و الصين ليحتدم التنافس فيما بينها لجذب أكبر عد ممكن من المستهلكين و الكل يرفع نفس الشعار: “العودة إلى المدارس تبدأ من هنا”…!!
قبل سنوات مضت كانت أسعد أيامي عندما تصطحبني أمي أنا و إخوتي إلى جمعية البطين-لا أدري لما اشتهرت بهذا الإسم مع أنها تقع في فريج الزعاب!- و غالبا يكون ذلك قبل بدء الدراسة بأسبوعين على الأقل، كنت أستمتع بتقليب الدفاتر الملونة المرتبة بشكل جميل و منظم في إحدى الزوايا عند المدخل، و كانت أحب هواياتي اقتناء أقلام الرصاص التقليدية و أنواع مختلفة من (البرايات) و لكن مع مرور السنين استبدلتها باقلام (التك تك) الحديثة التي لا تحتاج إلى مبراة، صحيح أنني عانيت في البداية بسبب دقة خيوط الرصاص (مسوية رجيم!) التي كانت كانت تنكسر بسهولة و لكنني سرعان ما تعودت عليها بمرور الوقت، كنت أكره شراء الأقلام الجافة لرداءة خطي عندما أستخدمها أتفنن بالمقابل في اختيار اقلام الحبرالسائلة أو اقلام (الأنابيب) كما كنا نسميها!
كانت المعضلة الكبرى بالنسبة لي هي مسألة اختيار المقلمة أو محفظة الأقلام، فالمقلمة كانت بالنسبة لي هي عنوان الأناقة و التميز بين التلاميذ داخل الفصل، لذلك كنت أحاول قدر الإمكان أن لا يشاركني في اقتناء نفس المقلمة أي طالب آخر في الفصل حتى لو تطلب مني أن أوصي قريبا لي بجلبها لي من خارج الدولة!! و لا زلت أذكر جيدا تلك المقلمة البلاستيكية الخضراء التي اشتريتها من مدينة جدة خلال إحدى الإجازات، كنت مفتونا بها لدرجة الهوس و كثيرا ما كنت أنشغل بها عن شرح المدرس أثناء الحصة، كانت مليئة بالأزرار ذات الوظائف المختلفة، فالضغظ على زر يفتح لك مكان وضع الأقلام و زر ثان لإظهار البراية و زر لحفظ المحاية و آخر للمسطرة، لا أتذكر عدد تلك الأزرار بالضبط لكن كان لكل زر لون مختلف يميزه عن الذي بجواره، أجمل ما في تلك المقلمة أنه كان بالإمكان تحويلها إلى حامل للكراسة أثناء القراءة!!……. للأسف فرحتي لم تدم طويلا عندما وجدت زميلا لي يمتلك نفسها بالضبط!!
طبعا هذا النوع من المقالم انقرض منذ فترة طويلة و استبدل بالصناديق المعدنية الصغيرة أو (التنكية) كما يحلو لي أن أسميها لأن الأقلام بداخلها تصدرأصواتا عجيبة و مزعجة، كما ظهرت المقالم المصنوعة من جلد أو قماش و (شموا) عليها (سحاب) يصل بين طرفيها.
عندما كنت في المرحلة الإبتدائية كنت كغيري من الطلبة أحمل على ظهري شنطة سرعان ما تتقطع و تحول إلى قماش مهترئ قبل أن ينتصف العام الدراسي بسبب ثقل وزن الكتب و الدفاتر، لذلك استبدلتها لاحقا بربط الكتب بواسطة حزام أو (سير) عادة ما يكون لونه فاقع أو فسفوري!، كانت أمي تصر على أن أصطحب معي (مطَارة) لحفظ الماء باردا (و أحيانا عصير) فماء المدرسة غالبا ما يكون ساخنا و كأنه مخصص لعمل الشاي أو القهوة، و في الأيام القليلة التي يكون فيها الماء باردا كنت أتقزز من مشاهدة الطلبة الذين يلصقون أفواههم بالحنفيات و هو يشربون و أعتبرهم غير متربين.
صباح كل يوم أضطر لشرب كوب دافئ من حليب (النيدو) بالشوكلاتة هي بمثابة وجبة الإفطار فلم تكن لدي شهية لتناول إفطاردسم، مازلت أذكر أمي عنما كانت تقول لي بإلحاح (اشرب .. علشان تكون شاطر و ذكي) و أحيانا عندما أتلكأ تغضب و تصرخ في وجهي (سوف تجوع إذا لم تشرب)…!!
مصروفي اليومي لم يزد عن درهمين .. درهم لشراء شطيرة زعتر أو جبنة جافة.. و الدرهم الآخر لشراء عصير (سنتوب) أو (ميلكو) برتقال، ارتفع إلى 3 دراهم في المرحلة الإعدادية فصرت أتناول عصير و شطيرتين.. ثم إلى 5 دراهم في بدايات المرحلة الثانوية… و مع تخرجي من الثانوية العامة لم أكن أحصل على أكثر من 10 دراهم يوميا*… كنت أنا و أصدقائي في الحارة نتسابق يوميا للوقوف بانتظام على رأس الطابور و نحن ننتظر قدوم الباص الذي كان يأتي لاصطحابنا عادة حوالي الساعة السابعة صباحا، كنت أتميز غيظا عندما كان أحد الآباء يقوم بوضع ابنه أمامنا على رأس الطابور حتى و إن جاء متأخرا..!
أما العذاب اليومي فكان يتمثل في العودة من المدرسة عندما أتكدس أنا و عشرات الطلاب في ذلك الباص البرتقالي القديم غير المكيف خصوصا خلال جحيم الصيف الذي لا يطاق، وكم كنت أغبط زملائي الطلبة الذين يمتلكون سواقين أو يأتي آباؤهم لاصطحابهم، فلم أكن أدخل المنزل إلا و أنا ألهث من شدة التعب وقد تشرَب خدَاي بحمرة الطماطم من شدة الحر!
كنت تلميذا هادئا خجول نوعا ما، وأصدقائي عددهم لا يتجاوز أصابع اليد، لا أحب المشاكل و لا المشاكسات مع غيري من الطلبة و لا أذكر أنني دخلت في (ضرابة) سوى مرتين… المرة الأولى كانت مع طالب صومالي… و المرة الثانية كانت مع طالب سوداني سمين… تعادلت في الأولى… و هزمت هزيمة ساحقة في الثانية!
* لم أفهم الحكمة في هذا التقشف إلا عندما كبرت، فمعلوم أن المال بالإضافة إلى الفراغ عاملان من عوامل انحراف المراهقين، لذلك أدين بالفضل إلى والدي بعد الله في عدم تخلقي بعادات سيئة كانت منتشرة بين الطلبة و مازالت كالهروب من الحصص و التدخين.
(863)